فن

فيلم The Juggler: هوليوود تقدم إسرائيل للعالم

يعد من أوائل الأفلام التي رسخت علاقة هوليوود بإسرائيل كدولة ناشئة، وشهد شراكة بين العلاقات الدبلوماسية العامة الإسرائيلية وصناعة الأفلام الأمريكية.

future فيلم The Juggler

«لكي نبني قرية عربية محطمة مثل إقرت، فسيكلفنا ذلك ربع مليون دولار».

— إدوارد ديمتريك، مخرج أمريكي.

قرية إقرت هي قرية فلسطينية مسيحية هُجِّر أهلها ودُمِّرت معالمها في العام 1948 أثناء حرب إسرائيل على فلسطين وإعلان دولة إسرائيل، لجأ معظم أهلها الناجين إلى لبنان، ودُمر ما تبقى منها في يوم عيد الميلاد في العام 1951. بعد ذلك بعامين وبعد خمسة أعوام من النكبة في 1953 صُوِّر الفيلم الهوليوودي الأول على الأراضي الإسرائيلية الناشئة، فيلم «الساحر - The Juggler» من بطولة النجم الأمريكي الشهير كيرك دوجلاس، وإخراج إدوارد ديمتريك، وإنتاج ستانلي كريمر. يسرد الفيلم قصة شاب ألماني يهودي يلجأ إلى إسرائيل بعد نجاته من معسكر تعذيب نازي، يصوِّر الفيلم عملية لجوء آلاف اليهود الهاربين من أهوال الحرب العالمية الثانية، وتحديداً المعسكرات النازية، إلى إسرائيل التي تمثل وطناً منقًّى عرقياً ودينياً، خُلق خصيصى لهم.

كيرك دوجلاس وميلي فيتالي في إقرت أثناء تصوير فيلم The Juggler 1953

يعد فيلم الساحر من أوائل الأفلام التي رسخت علاقة هوليوود بإسرائيل كدولة ناشئة، تبعه مئات الأفلام والمشاريع التي تعمل بشكل قريب مع الإدارة الإسرائيلية، لكن تكمن أهميته في كونه الفيلم الأول الذي موضع نجماً هوليوودياً كواجهة للتسويق للدولة الجديدة بآمالها المستحدثة، وجعلها مساحة لحدوث أحداث مماثلة للتي تحويها الأفلام الأمريكية، فتصبح بذلك جزءاً من سردية صداقة وشراكة محتملة، وجزءاً من كيان سينمائي مهيمن.


في كتابهما «هوليوود وإسرائيل: تاريخ - Hollywood And Israel: A History» يسرد الكاتبان توني شو وجيورا جودمان تتابعاً تاريخياً لعلاقة هوليوود بإسرائيل، ذاكرَين التاريخ الشفهي لبعض أشهر وأكبر الأفلام التي شهدت شراكة بين «العلاقات الدبلوماسية العامة الإسرائيلية – Hasbara» وصناعة الأفلام الأمريكية، ومن ضمن تلك النوادر استخدام إنتاج فيلم الساحر لقرية إقرت الفلسطينية موقع تصوير في بعض المشاهد لتقليل التكلفة الإنتاجية والحصول على مشاهد واقعية، مما حول مأساة قرية مدمرة ومهجرة إلى صفقة تجارية رابحة.(1)

إسرائيل كسردية هوليوودية

يبدأ الفيلم بموسيقى حماسية آملة، بينما يُكتَب على الشاشة مكان وقوع الأحداث وزمانها: حيفا، إسرائيل، 1949، تحتل الشاشة أجساد مئات من اللاجئين اليهود على سفن ضخمة يستعدون لوضع أقدامهم في موطئ الأمان بعد ما عانوه من الحرب في بلدانهم المختلفة، من ضمن هؤلاء هانز مولر (كيرك دوجلاس)، رجل كاريزماتي يتحدث الإنجليزية بالطبع كونه فيلماً هوليوودياً، لكنه ألماني يهودي، لم يشكِّك لحظة في إمكانية تعرضه لما تعرض له زملاؤه من اليهود من جنسيات أخرى، فهو يعرِّف نفسه كونه ألمانياً وليس يهودياً، يعاني هانز الذي عمل ساحراً (متخصص في التلاعب بالكرات والعناصر والتقاطها في الهواء) قبل الحرب من غضب داخلي متغلغل، يجعله يرفض حتى اللجوء للوطن اليهودي الجديد، يصاب بلحظات من تشوش الذهن تجعله يتخيل أن امرأته وأولاده ما زالوا على قيد الحياة بعد أن قتلتهم القوات النازية.

تدور أحداث الساحر في قالب هوليوودي تقليدي، يتبنى مجموعة من الأنواع الفيلمية الهوليوودية في سياق سياسي جانبي، فهو فيلم عن اضطراب ما بعد الصدمة ومغامرات هارب من السلطات، تبدأ حادثته المحفزة باعتداء هانز على شرطي إسرائيلي بالضرب؛ لأنه ظن بسبب تشوش أفكاره أنه يطارده.

من ذلك الحدث يصبح الفيلم عن هانز كهارب، في أرض مثالية تقابله بها الطيبة والرقة من كل اتجاه، يتفهمه الجميع أثناء رحلة هروبه، يقابل طفلاً إسرائيلياً يعرِّف نفسه باسم «صابرا – Sabra» أي مولود في إسرائيل، وهو مصطلح عبري استُخدِم منذ الثلاثينيات، مشتق من الصبار ودلالاته المتعلقة بالصبر والجلد، يلهم هانز الطفل فيسعى لأن يكون مثله، وأن يلقب بأول ساحر أو رامي كرات إسرائيلي، وفي امتداد رحلته يقابل يائيل فتاة جميلة يقع في حبها في فترة قصيرة حسب التقاليد الهوليوودية، تطببه وتعده بالأمان، تسوق له دولة إسرائيل باعتبارها وطناً له ولكل يهودي، تسير معه بامتداد الجبال الفلسطينية والمستعمرات التي تجمع مجتمعات يهودية زراعية «الكيبوتز – kibbutz» وتسوقها له كذلك، كل من يعيشون هنا يحاولون تحويل الصحراء إلى جنة خضراء، والحطام إلى عمران.

إسرائيل كفتاة جميلة ورجل وسيم

يلخص الفيلم نسخته من الرواية الصهيونية في شخصية يائيل (ميلي فيتالي) الفتاة الجميلة التي يوازن اسمها كلمة إسرائيل، تمثل كل ما هو رقيق ولين، لا تطلق النار على الناس بدم بارد، تعد اللاجئ الجديد بحياة جديدة ووطن لا يمكن فقده، فبالنسبة له الوطن هو مكان نفقده، تنتشل الضائعين من غيابات صدمتهم وترتفع بهم إلى مجتمع يوتوبي آمن، لكنه محاط بالخطر المتمثل في هجمات بلدان العرب المجاورة ودوريات السوريين على ظهور جمالهم، وهو ما عليها هي ورعاياها الجدد التصدي له. إسرائيل في نسختها الهوليوودية الأولى هي فتاة جميلة تنقذك من نفسك ومن الغرباء، تعدك بالأمل والوطن، وتحيي فيك من جديد معاني الحياة.

ميلي فيتالي في دور يائيل في The Juggler 1953

منذ بداية علاقة هوليوود بإسرائيل تتعامل السينما مع الدولة الناشئة باعتبارها كينونة منعدمة الأهلية، عالماً يقع على أطراف الجبال يعيش في تناغم ويسكنه فقط الطيبون من ضحايا الحرب، ربما تمثل شخصية هانز بتناقضاتها نوعاً من الاستثناء، لكنه ليس استثناءً سياسياً أو أخلاقياً، بل أداة للموضعة داخل السياق السينمائي النوعي الهوليوودي، فالساحر ليس فيلم حرب، بل هو فيلم ويسترن (غرب أمريكي) متخفٍّ داخل فيلم دعاية صهيونية، وذلك بالضبط هو ما يجعل الدولة الناشئة جزءاً يمكن إدراجه داخل الثقافة الأمريكية، ومن ثم العالمية، أن تكون سرديتها جزءاً من السردية الأمريكية الشعبية العامة، أن تحفظ الأماكن التاريخية والمواقع الدينية الأثرية الفلسطينية باسم آخر وتكون موقعاً للمطاردات السينمائية، داخل سياق نوعي سهل المتابعة والهضم، وبالطبع بموضعة نجوم ذوي ملامح معروفة ومحبوبة وكاريزما طاغية في قلب التسويق للدولة الجديدة، يمكن وصف تلك التكتيكات بشكل منطقي بالطفولية أو الاستعلائية، لكنها تنجح عبر سنوات من الهيمنة الثقافية والتكرار، عملت السينما الهوليوودية منذ بدايتها بشكل حثيث لمركزة شكل البطولة البيضاء، مما شكَّل وعياً جمعياً ينال حتى خيال غير البيض أو سكان الجنوب العالمي.

يصف شو وجودمان، في إسرائيل وهوليوود: تاريخ، الكيفية التي ترغب إسرائيل في أن تظهر بها عن طريق سحر الأفلام، ومن يجب أن يمثلها، خاصة في أفلام لاحقة مثل «الخروج – Exodus» (1960) من بطولة بول نيومان: «في هوليوود إسرائيل هي أرض المحاربين الرجوليين العطوفين ذوي الوجوه التي قبلتها الشمس»، يصف الكاتبان لحظة محددة في التاريخ هي التي شكلت إسرائيل في الوعي الأمريكي، وهي لقطة بزوغ بول نيومان في فيلم الخروج من مسطح مائي، بعينين زرقاوين لامعتين وجسد مفتول العضلات يتوسط صدره نجمة داود تتلألأ في الشمس، يختلف ذلك التمثيل الرجولي المغوي في الخروج عن التمثيل الأول المتشكك لكيرك دوجلاس في الساحر في أوائل الخمسينيات، لم تكن الرؤية راسخة بعد، انتهج الساحر وبطله شكلاً أكثر هشاشة وتوتراً، فالبطل هنا لا يزال في صدمة مضطربة من ماضيه، كما أنه ذات غير معسكرة، فهو فيلم تمهيدي يتحدث ويتوسل الفرد العادي لتقبل الوطن الجديد، لنسيان الماضي وإعمار المستقبل، على أرض محتلة دون النظر لحقيقة تكرار تجربة شبه نازية جديدة، يمكن اعتبار الساحر جس نبض وتحسس خطوات مبدئياً لتمثيل إسرائيل في الخيال الأمريكي ومن ثَم العالمي، تبعه تجارب أكثر جرأة وثباتاً.

بول نيومان في Exodus 1960

إعادة تعيين اللغة

عملت أفلام مثل الساحر على المحو الحرفي لسكان الدولة الجديدة الأصليين، لا تسمع في الفيلم قط كلمة فلسطين أو فلسطيني، على الرغم من ذكر سوريا ولبنان ومصر كدول تطوق إسرائيل حدودياً، وعلى الرغم من ذلك كون الفيلم مصوراً في إسرائيل فإن اللافتات تحوي أسماء البلدان والمناطق بالعربية بجانب العبرية، تُذكَر مرة واحدة كلمة عرب في معرض الحديث عن قرية إقرت العربية التي تذهب يائيل في رحلة لاستكشاف إمكانية تسكينها من جديد، في ذلك النوع من البروباجندا المبكرة لم يتم حتى شيطنة العرب، بل اتجه الفيلم الأول لخلق بيئة تربط بين الاحتلال الاستيطاني والنجاة من المحرقة النازية بشكل مباشر، دون فواصل بينهما أو أهداف أخرى عدا خلق بيت آمن لكل من عانى ويلات الحرب من اليهود.

كيرك دوجلاس في The Juggler 1953

يُحدِّث هانز طفلة صغيرة خائفة من الوطن الجديد في الدقائق الأولى من الفيلم قائلاً إنه لو حكمنا العالم لما اضطررنا للعيش في مخيمات أبداً، يصوِّر الفيلم حالة غريزة النجاة المتطرفة باعتبارها بارقة أمل عادلة، ويصنع رؤية عاش بها العالم، خاصة الغربي، وهي التجاهل التام للمصطلحات والأوصاف السياسية لوصف الاحتلال واستبدال أوصاف رومانسية وعسكرية بها، تصبح عملية استبدال سكان جدد بالسكان الأصليين بالتهجير أو القتل هي عملية استرجاع للوطن، والبناء فوق قرية عربية مدمرة هو استصلاح أرض غير صالحة للحياة وجعلها ملاذاً آمناً للاجئين.

تمثل تلك المقاربة مجازاً حياً لتلك العلاقة التاريخية بين علاقة الصورة بالواقع، وبين مفهوم الاستخدام وصناعة المحتوى المرئي أو الترفيهي، المرتبط بشكل خاص بالامتيازات التراتبية، في حالة قرية فلسطينية محطمة فإن هنالك امتيازاً يتعلق بالانتصار اللحظي والحق في الاستيلاء، ليس فقط على القرية بإحلال سكانها ومعالمها بآخرين، بل كذلك الاستيلاء على قيمتها التاريخية بموضعتها ضمن سردية هوليوودية بصرية، فتتغير دلالتها من قرية مسيحية فلسطينية مهجرة ومدمرة إلى قرية عربية يمكن إعادة إعمارها وجعلها قرية إثنية دينية يهودية.

لطالما سرت نظريات المؤامرة حول إدارة العالم أو بشكل أصغر حول إدارة التوجهات السياسية داخل هوليوود في حقب زمنية مختلفة، في حالة علاقة هوليوود بإسرائيل الشراكة ليست سراً مدفوناً، بل هي وضع معلن، لكنه في الوقت نفسه نقطة شديدة الحساسية، وجزء من سردية معادية للسامية ينبذ من يتلفظ بها، لكن في حقيقة الأمر حدث ذلك التلاحم والعلاقة الثنائية بعيداً عن نظريات المؤامرة والصور النمطية، خاصة مع بداية نشأة دولة إسرائيل، استخدمت العلاقات العامة الإسرائيلية الوجوه الأمريكية اليهودية أو حتى المعتنقة الدين حديثاً للدفع بسرديتها الرئيسية للعالم، لتبرير المعضلات الأخلاقية.

عمل على ذلك مشاهير بحجم فرانك سيناترا وإليزابيث تايلور، وكيرك دوجلاس بطل الساحر، الذي عمد منذ بداية نجوميته لاستخدام جذوره اليهودية التاريخية من أجل دعم الدولة الجديدة ورؤيتها وإدارتها، فليست مفاجأة كبيرة أن يأخذ بطولة أول فيلم صُوِّر داخلها، ربما نُظر في وقتها إلى تلك المجهودات باعتبارها جزءاً من حراك بطولي يدعو لحماية المستضعفين ودعم الدولة التي تُئويهم، لكن مع مرور الوقت وتراجع تلك الرؤية الرومانسية للحركات الاستعمارية فإن الوجوه الجميلة تحولت إلى شركاء مباشرين في تسويق شر لا يمكن تسميته أسماءً أخرى، فلولا ذلك الدعم من النجوم، خاصة في سنوات ارتبطت فيها الشهرة بقدرة على أسر السردية العامة، ربما لم تكن إسرائيل لتعيش مستقرة ومدعومة راسخة حتى يومنا هذا.

عمد فيلم الساحر إلى صياغة رؤية راسخة غير مترددة للشكل الذي يجب أن تكون عليه كدولة تحمي اللاجئين، لكن ربما يكون عن طريق الخطأ قارب بين المعسكرات النازية والمعسكرات التي ضمت اللاجئين اليهود في بداية نشأة الدولة، وعن طريق المصادفة صنع شكلاً مشابهاً لحياة الفلسطينيين على أرضهم المحتلة، يمكن حتى تطبيق مخاوف هانز من كونه مطارداً من كل شرطي وكل مسئول وكل من هو في زي رسمي على الشكل الذي تنتهجه دولة إسرائيل من بدايتها وخلال فترة وجودها، فهي دولة معسكرة ومقيدة بالكامل، إذا كان هانز شخصية حقيقية تسكنها فإنه لن يشفى من اضطراب ما بعد الصدمة أبداً؛ لأنه سوف يعيش في عالم مقسم تطوفه الأزياء العسكرية والأسلحة والمطاردات والفصل العنصري.

# سينما # فن # هوليوود # إسرائيل

1- Has Hollywood Fallen Out Of Love With Israel؟
حصاد شباك تذاكر مصر 2024: 35 مليون دولار ومفاجأة في السعودية
عصابات صهيونية: شبيبة التلال واحتلال الضفة الغربية
سويت نوفمبر: مخرجات الأفلام في مصر و98 عاماً من الجرأة

فن